كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج البخاري ومسلم- كلاهما- عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيع، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان. قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال فجعلت أمشي في ظل القمر. فالتفت فرآني. فقال: «من هذا» فقلت: أبو ذر- جعلني الله فداك- قال: «يا أبا ذر تعال!» قال: فمشيت معه ساعة. فقال لي: «إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيرًا، فيجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيرًا» قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي: «اجلس هاهنا». فأجلسني في قاع حوله حجارة. فقال لي: «اجلس هاهنا حتى أرجع إليك» قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه. فلبث عني، حتى إذا طال اللبث.. ثم إني سمعته وهو مقبل يقول: «وإن زنى وإن سرق» قال فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله- جعلني الله فداك- من تكلمه في جانب الحرة،؟ فإني سمعت أحدًا يرجع إليك. قال: «ذلك جبريل، عرض لي جانب الحرة، فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. قلت أيا جبريل: وإن سرق وإن زنى؟. قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. وإن شرب الخمر».
وأخرج ابن أبى حاتم- بإسناده- عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس تموت، لا تشرك بالله شيئًا، إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها، وإن شاء غفر لها. إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء».
وأخرج ابن أبي حاتم- بإسناده- عن ابن عمر قال: كنا- أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- لا نشك في قاتل النفس، وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزور. حتى نزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة! وروى الطبراني- بإسناده- عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي. ما لم يشرك بي شيئًا».
وفي هذا الحديث الأخير لمحة كاشفة.. فالمهم هو شعور القلب بالله على حقيقته سبحانه ومن وراء هذا الشعور الخير. والرجاء. والخوف. والحياء.. فإذا وقع الذنب، فمن ورائه هذه السمات تؤهل للتقوى وتؤهل للمغفرة.
ثم يمضي القرآن- وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في المدينة- يعجب من أمر هؤلاء الخلق؛ الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار؛ ويثنون على أنفسهم؛ ويزكونها؛ بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله- كما سبق- وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت- كما سيجيء- كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!: {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلًا. انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثمًا مبينًا}..
ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم. وقد اختارهم الله فعلًا لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان؛ وأهلك لهم فرعون وملأه، وأورثهم الأرض المقدسة.. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله؛ وعتوا في الأرض عتوًا كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم؛ ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عمليًا- بهذا التحريم والتحليل- وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم. وبذلك اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله. وأكلوا الربا.. ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابة الذي أنزله عليهم.. وعلى الرغم من ذلك كله- وغيره كثير- فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه. وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة. وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هودًا! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله- تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا- فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب؛ إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله.
فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه. ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله لابد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخًا كاملًا من دين الله الذي هو منهجه للحياة؛ فينبذونه من حياتهم؛ ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم. وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة!
والله يعجب رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم. وأمر المسلمين المعاصرين أعجب، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب!!
إنه ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم؛ ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله. إنما الله هو الذي يزكي من يشاء. فهو أعلم بالقلوب والأعمال. ولن يظلم الناس شيئًا، وإذا هم تركوا هذا التقدير لله سبحانه واتجهوا إلى العمل. لا إلى الادعاء. فلئن عملوا- وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله، وبدون تزكية ولا ادعاء- فلن يغبنوا عند الله؛ ولن ينسى لهم عمل؛ ولن يبخس لهم حق.
والله سبحانه يشهد على اليهود أنهم- إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم- يفترون عليه الكذب. ويشنع بفعلتهم هذه، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها: {انظر كيف يفترون على الله الكذب. وكفى به إثمًا مبينا}.
وما أرى أننا- الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون! بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة.. ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا؛ ونؤدي ضده شهادة منفرة منه! ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم بينما دين محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طردًا.. ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع، الذي يعجب الله سبحانه منه رسوله صلى الله عليه وسلم ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله، وارتكاب هذا الإثم المبين! والعياذ بالله!
إن دين الله منهج حياة. وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة. والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته.. فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه.. ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود، الذين يعجب الله من حالهم، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم! فالقاعدة هي القاعدة.
والحال هي الحال. وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة!!!
ويمضي السياق في التعجيب من أمر أولئك الذين يزكون أنفسهم.. بينما هم يؤمنون بالباطل وبالأحكام التي لا تستند إلى شرع الله، وليس لها ضابط منه يعصمها من الطغيان: {الجبت والطاغوت} وبينما هم يشهدون للشرك والمشركين بأنهم أهدى من المؤمنين بكتاب الله ومنهجه وشريعته، ويحمل عليهم- بعد التعجيب من أمرهم، وذكر هذه المخازي عنهم- حملة عنيفة؛ ويرذلهم ترذيلًا شديدًا؛ ويظهر كامن طباعهم من الحسد والبخل؛ والأسباب الحقيقية التي تجعلهم يقفون هذا الموقف إلى جانب انحرافهم عن دين إبراهيم- الذي يفخرون بالانتساب إليه- وينهي هذه الحملة بتهديدهم بجهنم. {وكفى بجهنم سعيرًا}.
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا. أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا. أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرًا}..
لقد كان الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، أولى الناس أن يتبعوا الكتاب؛ وأن يكفروا بالشرك الذي يعتنقه من لم يأتهم من الله هدى؛ وأن يحكموا كتاب الله في حياتهم، فلا يتبعوا الطاغوت- وهو كل شرع لم يأذن به الله، وكل حكم ليس له من شريعة الله سند- ولكن اليهود- الذين كانوا يزكون أنفسهم، ويتباهون بأنهم أحباء الله- كانوا في الوقت ذاته يتبعون الباطل والشرك باتباعهم للكهانة وتركهم الكهان والأحبار يشرعون لهم ما لم يأذن به الله. وكانوا يؤمنون بالطاغوت؛ وهو هذا الحكم الذي يقوم على غير شريعة الله.. وهو طاغوت لما فيه من طغيان- بادعاء الإنسان إحدى خصائص الألوهية- وهي الحاكمية- وبعدم انضباطه بحدود من شرع الله، تلزمه العدل والحق. فهو طغيان، وهو طاغوت؛ والمؤمنون به والمتبعون له، مشركون أو كافرون.. يعجب الله من أمرهم، وقد أوتوا نصيبًا من الكتاب، فلم يلتزموا بما أوتوه من الكتاب!
ولقد كانوا يضيفون إلى الإيمان بالجبت والطاغوت، موقفهم في صف المشركين الكفار، ضد المؤمنين الذين آتاهم الله الكتاب أيضًا: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا}.
قال ابن إسحاق. حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة- أو عن سعيد بن جبير- عن ابن عباس. قال: «كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة، حيي بن أخطب، وسلام بن الحقيق، وأبو رافع، والربيع بن الحقيق، وأبو عامر، ووحوح بن عامر، وهودة بن قيس، فأما وحوح وأبو عامر وهودة، فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير. فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتاب الأول. فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم. فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله- عز وجل-: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب}... إلى قوله عز وجل: {وآتيناهم ملكًا عظيمًا}..» وهذا لعن لهم، وإخبار بأنه لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة. لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين. وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم. وقد أجابوهم، وجاءوا معهم يوم الأحزاب؛ حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق، وكفى الله شرهم {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا. وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا} وكان عجيبًا أن يقول اليهود: إن دين المشركين خير من دين محمد ومن معه، وإن المشركين أهدى سبيلًا من الذين آمنوا بكتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا ليس بالعجيب من اليهود.. إنه موقفهم دائمًا من الحق والباطل، ومن أهل الحق وأهل الباطل.. إنهم ذوو أطماع لا تنتهي، وذوو أهواء لا تعتدل، وذوو أحقاد لا تزول! وهم لا يجدون عند الحق وأهله عونًا لهم في شيء من أطماعهم وأهوائهم وأحقادهم إنما يجدون العون والنصرة- دائمًا- عند الباطل وأهله. ومن ثم يشهدون للباطل ضد الحق؛ ولأهل الباطل ضد أهل الحق!
هذه حال دائمة، سببها كذلك قائم.. وكان طبيعيًا منهم ومنطقيًا أن يقولوا عن الذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا!
وهم يقولونها اليوم وغدًا. إنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام التي في أيديهم كل حركة إسلامية ناجحة على ظهر الأرض؛ ويعينون عليها أهل الباطل لتشويهها وتحطيمها- بالضبط كما كانوا يعينون مشركي قريش ويستنصرون بهم في الوقت ذاته- لتشويه الحركة الإسلامية الأولى وتحطيمها.
ولكنهم أحيانًا- لخبثهم ولتمرسهم بالحيل الماكرة ولملابسات العصر الحديث- قد لا يثنون ثناء مكشوفًا على الباطل وأهله. بل يكتفون بتشويه الحق وأهله. ليعينوا الباطل على هدمه وسحقه. ذلك أن ثناءهم المكشوف- في هذا الزمان- أصبح متهمًا، وقد يثير الشبهات حول حلفائهم المستورين، الذين يعملون لحسابهم، في سحق الحركات الإسلامية في كل مكان..
بل لقد يبلغ بهم المكر والحذق أحيانًا، أن يتظاهروا بعداوة وحرب حلفائهم، الذين يسحقون لهم الحق وأهله. ويتظاهروا كذلك بمعركة كاذبة جوفاء من الكلام. ليبعدوا الشبهة تمامًا عن أخلص حلفائهم، الذين يحققون لهم أهدافهم البعيدة!